يسدل الستار في الخامس عشر من مايو/أيار الحالي على العام الثاني والستين لإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، ونكبة الفلسطينيين، وصور معاناتهم بالتشريد والتشتت في المخيمات داخل وخارج فلسطين، والتي ما زالوا يعانون من تبعاتها وآثارها حتى الآن، يومها الجراح النازفة لأكثر من ثمانية ملايين فلسطيني في الوطن والشتات ستنكأ من جديد، رغم أن النسيان لم يطوها من ذاكرتهم، إذ ما زالت راسخة في عقولهم وقلوبهم، ستفيض قلوبهم شوقًا ليافا وحيفا والمجدل ويبنا وزرنوقا وصرفند وكافة المدن الفلسطينية التي هجروا منها، لكنهم لن يملكوا سبيلاً بالوصول إليها فقط بسبب الاحتلال، لكنهم سيطلقون ألسنتهم بالحديث عن تفاصيل ومشاهد عايشوها وذكريات متناقضة منها الجميل والمؤلم، يتوقون لعودة الجميل منها، وتلاشي المؤلم، بالتحرر الكامل للأرض الفلسطينية، وزوال الاحتلال.
"القدس أون لاين" في سياق التقرير التالي تلتقي بعض من عاصروا النكبة، نتعرف على بلداتهم الأصلية، وظروف تهجيرهم منها، ونبصر أحلامهم بالعودة إلى الأوطان، وسر تمسكهم بمفتاح العودة رغم انقضاء أكثر من نصف قرن على التهجير، والبعد عن الأرض والشجر والحجر والبشر، ونسيم مواطنهم الأصلية، تابع معنا. من بربرة في الجزء الجنوبي من ساحل فلسطين الواقعة على الطريق الرئيس بين غزة ويافا، حيث يفصلها حوالي 20 كيلو مترًا إلى الشمال من غزة إلى منطقة الرمال الجنوبي بمدينة غزة، هُجر الحاج حسن صالحة، وعلى الرغم من سنوات عمره التي لم تتجاوز وقتها الرابعة عشرة، إلا أن ذاكرته عامرة بتفاصيل ومشاهد النكبة وما قبلها، يُعدِّد بدايةً الحاج حسن القُرى التي كانت تحيط ببربرة، فمن الجهة الجنوبية الغربية تطل عليها قرية هربيا، ومن الجنوبية الشرقية بيت جرجا فيما تتناثر حولها قرى سمسم وبرير وبيت طيما وحليقات والخصاص والجورة وعسقلان، ثمَّ يؤكد أن عدد سكانها في ذلك الوقت بلغ الـ2000 نسمة، غالبيتهم عملوا بالزراعة، خاصة زراعة العنب الذي كان يصدر إلى العديد من الدول العربية، وبشيء من التفصيل يعرج الحاج حسن للحديث عن شيم وصفات أهالي قريته، يشير إلى أن البساطة كانت عنوانهم والتكافل والترابط والحب أهم ما يميز علاقاتهم الاجتماعية، أما عن أشهر العائلات فيها، فكانت عائلة يونس والأشقر وأحمد وأبو نحل بالإضافة إلى عائلته صالحة، ويستكمل الرجل الذي أوهن العمر جسده فأنحله دون أن يأتي على ذاكرته، التي ما زالت تذكر تلك الأحداث الأليمة، وتتوق إلى العودة لاحتضان الأرض، وجني الثمر من جديد: "ظلت الحياة في قريتي على نسق الوداد والأمان والبساطة حتى قرع الاحتلال أبوابها، فعاث فيها الفساد، وشرد أهلها". مواجهات يؤكد الحاج حسن أن أولى المواجهات التي اندلعت في قريته مع الاحتلال كانت بعد قرار التقسيم، حيث قام الاحتلال بإطلاق نيران أسلحته تجاه المزارعين الفلسطينيين، بينما كانوا يغرسون أكف أيديهم بأراضيهم يزرعونها، ويجنون ثمرها. يصمت قليلاً ثم ينفض رأسه بعد أن استدعى إلى ذاكرته مشاهد الألم يقول: "بعد عمليات التخريب التي اقترفها الاحتلال بالأراضي وبحق الفلاحين الفلسطينيين لم يكن منا إلا الخروج بمظاهرات استنكار"، وقتها تصدوا للاحتلال بالحجارة، لكنها لم توقف الهجوم، فاستمر في كل يوم بوتيرة أقوى، مؤكدًا أن ذلك أدى بعدد من شباب القرية إلى تكوين لجنة قومية مهمتها الإشراف على العمل المقاوم، وتدعو إلى التحرك الشعبي لمناهضة الاحتلال، واتخذت في خطوات تأسيسها جمع التبرعات والإعانات لشراء أسلحة تزود بها عناصر المقاومة للتصدي للهجمات الصهيونية على قريتهم، وأوضح أنه بفعل التبرعات استطاعت اللجنة القومية بقيادة أحمد عبد الرحمن شراء 72 قطعة سلاح استخدمت في عمليات المقاومة، لافتًا إلى بعض الأسماء التي اتخذت سبيل المقاومة والجهاد ضد الاحتلال، أهمها الشيخ عبد القادر هاشم يونس الذي فتح منزله كمقر للجنة، بالإضافة إلى ديب عبد الرحمن أحمد، وعدد آخر من عائلة الأشقر منهم: محمد رمضان الأشقر، وعبد الرحمن الأشقر، وكذلك عبد الرحمن عثمان صالحة، والعبد صالح أبو نحل، مؤكدًا أن الجميع كانوا يقفون صفًا واحدًا في مواجهة الخطر القادم إلى قريتهم على عكس ما هو موجود الآن. السقوط  استمرت مقاومة أهل بربرة للاحتلال القادم خمسة شهور حتى سقطت في براثن المحتل في أكتوبر 1948، والتفاصيل كما يرويها الحاج حسن تدور في فلك اشتداد وتيرة المواجهة بين المقاومة وقوات الاحتلال، حيث قام أفراد المقاومة بزرع الألغام في طريق القوافل اليهودية المتجهة من جنوب القرية، ونجحت الخطة بعد انفجار الألغام، وقتل كافة اليهود الذين ساروا في القافلة، فثار غضب قوات الاحتلال، وباتوا يدبرون المكائد للمقاومة ولأهالي القرية على حد سواء، يؤكد الحاج حسن أن قوات الاحتلال أعقبت عمليات المقاومة الفلسطينية الناجحة بجرائم لا حدود لها نفذتها عن طريق الحيل والخدع، لافتًا إلى إحدى تلك الخدع إذ قام قائد صهيوني يدعي مرضخايم بانتحال شخصية بائع حليب في السوق، وتمكن من زرع قنبلة في سوق الخضار، وبعد انفجارها استشهد عدد كبير من الناس، وعاجلتهم قوات الاحتلال بإطلاق الأعيرة النارية تجاههم، مما زاد من أعداد الشهداء، ويتابع الحاج حسن: على الرغم من الخسائر البشرية، إلا أن العزيمة على مواصلة المقاومة لم تفتر لدى الفلسطينيين وقتها، وكانوا يردون على جرائم الاحتلال بعمليات تفجير لمصفحاتهم ومجنزراتهم، أو استهداف قوافلهم بالألغام، معتمدين في ذلك على دعم المؤيدين للمقاومة، وعلى رأسهم محمد طارق الإفريقي الذي دعم المقاومة، وشارك ببعض العمليات الفدائية، إلا أنها لم تكن بحجم الجرائم التي اقترفها المحتل، مما أدى في النهاية إلى سقوط القرية، وتهجير أهلها إلى قرى وبلدات أخرى، ويلفت الحاج حسن إلى أن استقراره وعائلته في مدينة غزة كان نابعًا من قربها المكاني لبلدته أملاً في العودة مجددًا إلى بلدته، إلا أنه لم يعد، ومازال الأمل يراوده بأن يغمس يده في تراب أرضه، فيكفكف نزفها، ويروي زرعها بحبات عرقه، فتزهر ليمونًا وعنبًا. من يافا إلى غزة حكاية أخرى المواجهات مع الاحتلال لم تكن مقصورة على قرية بعينها دون الأخرى، فكل القرى والبلدات والمدن الفلسطينية تواجه ذات المصير احتلالاً وقتلاً للأرض والشجر والبشر، وتشريدًا وضياعًا للحقوق، وانتزاعًا من الأصل إلى فروع لا يعرفون عنها سوى اسمها أحيانًا. وتفاصيل الذكرى الأليمة ترويها سعدية أمونة بلسان نزف كلمات الأسى والشوق لأرض البرتقال التي تركتها في عمر العشرين، ودام الفراق بينهما ثلاث أضعاف عمرها وقت ذاك وعامان آخران أيضًا، تصف الحاجة سعدية بلدتها الأصلية يافا بأرض الخير تفيض بأشهى المحاصيل الزراعية على سكانها وسكان القرى والبلدات المجاورة لها، خاصة الحمضيات، وترزقهم من بحرها أطيب السمك، تقول عن تفاصيل الحياة هناك: "كانت بسيطة كبساطة السكان الذين اشتهروا بالجود والكرم، علاوةً على تميزهم بالثقافة والعلم"، وتقدر الحاجة سعدية عدد السكان وقتها بـ60 ألف نسمة. الهجوم  ما أن وطأت قوات الاحتلال بأقدامها أرض فلسطين حتى عمدت إلى محاصرة المدن الفلسطينية الكبرى لإجبارها على الخضوع، تقول الحاجة سعدية: إن مدينتها يافا كانت محاصرة غربًا من البحر، وجنوبًا وشرقًا بالمستعمرات، وشمالاً بمدينة تل أبيب، لذلك كان من السهل مهاجمتها، لافتة أن البداية كانت في منطقة حي تل الريش والعجمي، إلا أن قوات المقاومة الفلسطينية تصدت لتلك الهجمات، وظلت تتصدى لها ببيع كل ما لديه وشراء الأسلحة، حتى خذلهم حلفاء عرب وأجانب قاموا بمساعدة الاحتلال ضدنا، ومن ثمَّ أحكموا سيطرتهم على المدينة، وأثمرت المواجهات استشهاد عدد كبير من المقاومين وقتها أمثال عرفة الدجاني، ومحمد وعبد المعطي أبو الوفا، وزكي بركات وغيرهم، وأكدت الحاجة سعدية أن المقاومة استمرت في مدينة يافا أربعة أشهر فقط، والسبب ضعف أسلحة المقاومة التي لم تتعدى البندقية، مقابل عتاد وآليات الاحتلال كالمورتر وقنابل الطائرات، وأشارت أن أقسى الهجمات كانت التي وجهت ضد حي سلمة، حيث قامت قوات الاحتلال بإطلاق نار كثيف وبشكل عشوائي لفترة طويلة تجاه منازل المواطنين، مما أوقع عددًا كبيرًا من الشهداء، خاصة النساء والأطفال، بالإضافة إلى زرع قوات الاحتلال قنبلة في سوق المدينة، أدى انفجارها إلى استشهاد 65 فلسطينيًا، وأضافت الحاجة سعدية: إن العملاء والطابور الخامس كان السبب الأساسي وراء سقوط المدينة في قبضة الاحتلال. الفالوجة قبل 62 عامًا  الحاجة رفقة عقيلان رغم سنوات عمرها التي لم تتجاوز الستة عام 1948، إلا أن أحداث وذكريات النكبة ما زالت تعبق بذاكرتها تأبى أن تتوارى مشاهدها طي النسيان، وقتها خرجت الحاجة رفقة من قريتها الفالوجة، والتي تقع بين قرى العراق والكراتية وبرير، مع أسرتها تاركين خلفهم بيتًا من طين، وحظيرة فيها ثلاث بقرات، كان المشهد مؤلمًا، فالسماء من فوقهم تمطر القرية وسكانها بالرصاص، والأرض من تحت أرجلهم العارية مليئة بالألغام، تقول: "خرجنا من بيتنا مع دار عمي ولم نأخذ إلا الطحين، كنا نخبز ونطعم المقاومين، ونقاوم معهم بالسواطير والمدراة، بينما هم بالبنادق"، وأشارت أن تلك المواجهات مع الاحتلال أثمرت استشهاد عدد كبير من أبناء عائلتها، بالإضافة إلى استشهاد عدد آخر تم قصفهم داخل بيوتهم من الطائرات، فهدمت عليهم الجدران، وتواروا تحتها شهداء أمثال: آمنة عقيلان، وحمدة وعبد المجيد وعائشة وعبد الرحيم عقيلان، تصمت قليلاً وتنسدل على وجنتيها دمعتان تذكر كيف تعرض ابن عمها وشقيقها للقصف، بينما كانا يحاولان إنزال نعش عمها إلى القبر بعد استشهاده، بعدها جاء الصليب وأخرجنا من الفالوجة، وأضافت: إنه بعدما هدأت الأوضاع قليلاً استطاع الصليب التوصل إلى حل مع الاحتلال أن نبقى في قريتنا، ونعمل لدى اليهود، فوافقنا، لكن ما أن انتهى دور الصليب حتى عاد اليهود مجددًا لقتلنا وتشريدنا، فخرجنا إلى الخليل، وأقمنا في كنيسة، ومن ثم مع استمرار جرائم اليهود انتقلنا إلى البريج، وحاصرنا اليهود هناك ثلاثة أشهر، ومن ثمّ أطلقوا سراحنا إلى غزة، وتشير الحاجة إلى أنها استقرت في البداية في مخيم الشاطئ، وعاشت وأهلها ظروفًا مأساوية في ظل فقر وانعدام للخدمات الإنسانية، ومن ثمّ انتقلنا إلى مخيم "يبنا" برفح، ومازلت أعيش بها، والأمل يراودني بأن أعود مجددًا إلى الفالوجة لأرضها الغناء، وخيرها الكثير |
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اترك بصمتك وشاركنا برأيك..