الاسرى والموت يجريان في زمن حديدي ويتسابقان في تحديد المصير، شهيد يعود مقتولا وآخر يودع موته في جنازته المؤجلة إلى حين، والكل يصعد سلما إلى السماء ضيوفا على غيوم الحالمين.
إلى متى يبقى شعبنا ينتظر موعد الجنازة؟ مرتبكا بين تفتح جسده للحدائق والمستقبل الجميل، وبين غد غامض يشبه صراخ القتيل، والكل على عجل مع آيات الوداع والنزول إلى الليل محمولا حيّا وميتا على خشب الرحيل.
الكل معنا في الرثاء والاستنكار والندب، والكل ضدنا ما دام أبو الناجي وإبراهيم جابر وفخري البرغوثي وسامي يونس وفؤاد الرازم بعد ثلاثين عاما يسألون السلام العادل عن شكل التوابيت بعدهم كي يعبروا آمنين.
شهداء العتمة، وأربع حيطان وزنزانة وروح شقية تحاول الجلوس قرب الصدى، وضوء يحدد كل ساعة من ينزل إلى قبره من ثقوب المدى، فهل هم آخر الأحياء في الصحراء وآخر نوم في رغوة المساء؟
يكتبون ويشتكون ويخطون أوجاعهم على الهواء، ويسيل صوتهم إلى أقاصي السيف والنسيان، يتساءلون إن ظلوا ضحايا أم أبطالا في قاموس اللغة المعاصرة، ويكتبون حتى لا يصيروا ذكرى مطرودة من الذاكرة.
قال لي كريم يونس أنه رأى الحياة بعد قليل من احتفال السجان بدولته البوليسية المزدحمة بالليل والمعسكرات والأسلاك والرياح العاتية،كأنها نبوءة ما بعد الحرب.
وقال لي منصور موقدة أنه لا بد لروحي من سماء ليراها الطير والمطر والمسيح قبل أن يفترق عن صليبه إلى الأفق، كأنها نبوءة معاق يستعيد قدماه.
وقالت لي آمنة منى أنا حر، وقتي لي وموتي لي، وأنا رجوع الأزرق إلى القدس، أنثى من ماء وصلاة وضوء ومعجزات تنفجر من جسد الأسيرات.
من أين تبدأ حكايتنا، من الموت أم من السجن،وهما سيّان ، ولكنّ للموت جنازة وشهادة وفاة وباقات من الورد والمشيعين، والسجن هنا استثناء: عتمة وقهر وكلام لم يسمعه أحد عند الاحتضار ليسجلوا الوصيّة في ساعاتها الأخيرة .
محمد عبد السلام : المقتول غمّا والمسافر بقلب يضخ بالأسماء: قاسم أبو عكر وإبراهيم الراعي وجمعة موسى ومحمد أبو هدوان وخليل أبو خديجة وراسم حلاوة وعلي الجعفري ومحمد الأشقر يتدفق الدم حتى يصل الأروقة الباردة جدا في لجنة حقوق الإنسان في جنيف ويجف عندما ينطقون بالقرار.
الشهيد الأسير محمد عبد السلام، الموت والقدس والماء، عشبة تدل على البراهين، ومدينة تطرد من الأساطير بشرا وحجرا، ولم يبق غير الريح ساخنة لا تسمع في صراخها غير نحيب السماء.
هي مفاوضات غير مباشرة بين القاتل والقتيل، القاتل يرسل الغاز والعتمة وأسباب الرحيل، والقتيل يحاول أن يؤجل صعوده ريثما يطلع الفجر وتبدأ الحياة دورتها ويسعى في منابكها الطير ، وتنتشر الملائكة في فضاء جميل
محمد عبد السلام وخمسة أطفال آخرهم جاء قبل بزوغ الفجر والنبأ المحنى بروح الشهيد، ولا أحد يصدق أن الموت تليه الحياة والولادة ما بعد الجفاف.
تحاول حكومة إسرائيل أن تجعل للموت الرمادي قانونا، فسنت قانون شاليط، ومن جريمة التعذيب منهجا فشرعت قانون الشاباك، وإذا ما فشلت تلك القوانين تستخدم الفسفور الأبيض بحق المدنيين وخنق الأسرى في معسكرات لا تسمع فيها سوى ضجيج الفولاذ.
أيها الشهيد الذي تحرر من زمنه القادم وفك قيوده ليصير طيرا من طيور الجنة مغمورا بسماء القدس وخطى الأنبياء، توقف قليلا أمام ظلال المدنية ممتلئة بحاضرها ولا يفزعها سوى الصمت.
عيناك جاحظتان في التابوت تحدق إلى الأعلى وطفلك الصغير لا يقرأ فيهما سوى الأبوّة التي لا تزول، يصرخ في المشيعين : هذه زنزانة لا تابوت فأين ستأخذوه بعد أن اكتملت صورته في لغتي.
محمد عبد السلام ضع خيال السجن هنا قرب بيتك، وانهض ملاكا حول عبّاد الشمس لأن الرواية عندك أقوى رواية سجان لا يجد بطلا في قصته ولا مكانا لسلام بعد الحرب، ولا حربا لجنونه بعد تحطّم الأساطير.
أرسل موضوعك /
ratannews@hotmail.com
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اترك بصمتك وشاركنا برأيك..