![]() | |
![]() |
بدت هذه السياسة وكأنها تجذّف كليةً ضدّ تيار السياسة التقليدية لتركيا تجاه الوطن العربي منذ مصطفى كمال أتاتورك قبل ما يزيد على ثمانية عقود وانقلابها الكبير على تاريخها الإسلامي ومحيطها الحضاري وحزامه الأقرب: المحيط العربي وما كان الانقلاب ذاك بسبب إلغائها منصب الخلافة وإقامة نظام علماني، فذاك ممّا كان شرطاً لا مفر منه كي تتقدم، وإنما كان بسبب إلغائها الحرف العربي وقطيعتها الكاملة مع ميراثها الحضاري، واتجاهها نحو الغرب ومحالفته . وليس لأحدٍ منّا أن ينسى، في هذا المعرض، اصطفاف تركيا الخمسينات ضدّ حركة التحرر الوطني العربية ومصر الناصرية وانتظامها في أحلاف إقليمية معادية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . كما ليس لأحدٍ منّا أن ينسى ما رتّبه انضمامها إلى “حلف شمال الأطلسي” على سياساتها الإقليمية من خيارات دفعنا ثمنها في الوطن العربي .
بدأ العد العكسي لهذه السياسة التركية المعادية نحو تصويب مسارها منذ النصف الثاني من عقد التسعينات الماضي، منذ صعود “حزب الرفاه” بزعامة الطيب الذكر نجم الدين أربكان إلى السلطة متحالفاً مع تانسو تشيلر وحزب “الطريق القويم”: قبل الانقلاب “الدستوري” على حكومة الشراكة . ولقد كان أكثر أطر “حزب العدالة والتنمية” الحالي أعضاء في حزب أربكان قبل الانشقاق عنه . لكن حكومة أربكان سجلت، منذ ذلك الحين، مقدمات تحوّل في مزاج تركيا السياسي وولاءاتها هي التي ستثمر خيارات اليوم فيها . هل في هذا المنحى الجديد الذي تسلكه تركيا دليل عودة إلى “هويتها” الإسلامية؟
ليس من شك في أن بعض ذلك صحيح على الصعيدين الثقافي والنفسي، ذلك أن تركيا “العدالة والتنمية” تحاول أن تتصالح مع تاريخها ومجتمعها بتدرّج وعقلانية ومن دون انقلابات مثيرة ومغامرة، وفي ذلك نقطة القوة التي تتحصن بها النخبة السياسية الحاكمة اليوم في وجه من يتربّص بها من الخصوم ويتحيّن فرصة الانقضاض عليها .
مَن يريد أن يحتجّ بتركيا “العدالة والتنمية” ليثبت أن الإسلام قادر على إنتاج مجتمع موحّد ومتضامن ومتقدم، وعلى إنتاج نظام سياسي مستقر ذي صدقية في العالم، عليه أن يكون على مثال “العدالة والتنمية” حزباً مدنياً يؤمن بالعلمانية ويطبّقها، بل ينتقل بها من علمانية مرتبكة خائفة يحرسها الجيش إلى علمانية يحرسها المجتمع والشعب والنخب السياسية والمدنية، إذ بالعلمانية صعد “حزب العدالة والتنمية” إلى السلطة، وبالعلمانية يمارس السلطة من دون أن يفقد أعضاؤه إيمانهم بالإسلام أو استلهامهم قيَمه في الحياة العامة .
هل مواقف تركيا من قضية فلسطين وقضايا العرب نتيجة “موقف إسلامي” لنخبتها الحاكمة؟
لا . ولسنا نقول لا بسبب أن تركيا العدالة والتنمية ما تزال تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني، وإنما نقول ذلك لأن منطق مصالح الدولة العليا هو الذي يحكم موقف “حزب العدالة والتنمية” . والمنطق هذا يقتضي من تركيا أن تستثمر ورقة استراتيجية في العلاقة بالغرب أهملتها الحكومات السابقة فيها هي “ورقة” العالم العربي والإسلامي . قد تكون المشاعر الإسلامية للحزب الحاكم رافداً ومورداً لهذا التوجه الجديد . لكنه قطعاً توجه صنعته المصالح الحيوية القومية لتركيا في المقام الأول . وليس عيباً أن تكون المصالح وراء هذا التوجه، بل العيب ألا نلتقي نحن العرب هذه المصالح فنحسن البناء عليها .
* نقلا عن "الخليج" الإماراتية
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اترك بصمتك وشاركنا برأيك..