لم تكن هذه الأوامر هي الأولى من نوعها التي يصدرها هذا الحزب أو الميليشيات الإسلامية الأخرى التي تقطع الصومال إلى مناطق نفوذ ومواقع قتال وحرب. فقد سبق للحزب الإسلامي ولحركة «الشباب المجاهدين» أن أصدرا أوامر للرجال بتقصير البنطلون، وللنساء بارتداء الحجاب، وللإذاعات بوقف بث الأغاني والموسيقى، إضافة إلى حظر مشاهدة مباريات كأس العالم الجارية حاليا في جنوب أفريقيا باعتبارها إهدارا للوقت. بل إن حركة الشباب أعلنت في وقت سابق من العام الحالي حظر برنامج الغذاء العالمي من العمل في الصومال بحجة أنه يستخدم المساعدات الغذائية لأغراض سياسية.
في ظل هذه المأساة تتقاتل الميليشيات على النفوذ غير آبهة بتقطيع البلاد ومعاناة العباد، وحتى لا يسارع أحد إلى القول إن هذه الحركات تقاتل من أجل مشروع إسلامي، فإن أكبر دليل على أن القضية هي صراع سلطة ونفوذ يتغذى من تركيبة قبلية معقدة ومن غياب أي سلطة مركزية حقيقية، هو أن الحركات والميليشيات الإسلامية تتصارع وتتقاتل فيما بينها لا بسبب خلافات دينية، وإنما من أجل وضع اليد على السلطة، بل إنها تحارب الآن ضد رئيس خرج من رحم هذه الحركات ذاتها.
ويشبه وضع الصومال الحالي في كثير من جوانبه وضع أفغانستان قبيل استيلاء طالبان على الحكم، وإذا قيض لأي من الحركات الإسلامية المتشددة أن تفرض سيطرتها على البلد فإنها ستقيم «إمارة» على غرار «إمارة طالبان»، بما في ذلك فتح الباب على مصراعيه لتنظيم القاعدة، الذي تقول التقارير إن بعض قادته انتقلوا من اليمن إلى الصومال وإن بعض كوادره يقاتلون هناك بالفعل. وكانت الطائرات الأميركية قد شنت غارات وعمليات استهدفت فيها عناصر قيل إنهم من «القاعدة» خصوصا أن بعض منفذي عملية تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998 هربوا إلى الصومال منذ ذلك الحين.
لقد أصبح الصومال نموذجا لـ«الدولة الفاشلة» التي يغيب فيها أي أثر للسلطة المركزية وللمؤسسات، ويعيش الناس في ظل ظروف قاسية يفتقدون فيها إلى أبسط الخدمات وإلى الكثير من الاحتياجات الأساسية. وفي دولة لم يعد الكثير من الناس فيها يعرفون معنى القانون، لم يكن غريبا أن يخرج جيل من القراصنة الذين جعلوا السواحل المقابلة للصومال أكثر المياه الدولية خطورة رغم السفن الحربية التي تجوب المنطقة لتأمين الملاحة. كما أنه في ظل انهيار الأوضاع دخلت إثيوبيا وإريتريا في حرب بالوكالة على الساحة الصومالية بعد أن انتهت حربهما المباشرة واستمر التنازع والتوتر بينهما.
وإذا كان العرب قد وقفوا عاجزين أو متفرجين على الوضع في بلد عضو بالجامعة العربية، وتركوا الأمر للاتحاد الأفريقي الذي كان أفضل حالا، إذ أرسل قوات لحفظ السلام تقاتل يائسة لدعم الحكومة في مقديشو، فإن إسرائيل لم يفتها أن تلاحظ انعكاسات الوضع الصومالي على الكثير من الأمور في المنطقة. لذلك خرج مسؤول إسرائيلي ليدلي بتصريحات في فبراير (شباط) الماضي أكد فيها استعداد بلاده لإقامة علاقات مع «جمهورية أرض الصومال» الواقعة في شمال البلاد والتي أعلنت الانفصال من جانب واحد منذ عام 1991. ونقل عن المسؤول الإسرائيلي قوله إن بلاده راغبة في علاقات ثنائية مع هذا البلد المسلم «الذي يطل على البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب»، مشيرا إلى أن لدى إسرائيل علاقات في الوقت الحالي مع دول أفريقية في المنطقة مثل تنزانيا وأوغندا وجيبوتي.
أزمة الصومال مرشحة للمزيد من التفاقم، وانعكاساتها لن تقف داخل حدود هذا البلد المنكوب كما رأينا في مشاهد القرصنة التي هددت وتهدد الملاحة في هذه المنطقة الحيوية، ومثل ما سيحدث إذا نقلت «القاعدة» عملياتها إلى هناك وإذا استولت على الحكم حركات لا تفكر في تأمين لقمة العيش أو في توفير الأمن والخدمات لشعب يعاني، بل في إطالة اللحى وقص الشوارب.
*نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اترك بصمتك وشاركنا برأيك..